ثمةً مقعدٌ فارغ في أدني العربة , أتفادي
بحماقةٍ كلُّ من أمامي سعياً إلي الوصول اليه .. إنه يسكنُ كالملكِ في أوسطِ
العربة . أعلم أنه من المفترضِ بي الجلوسَ في الأمام حسبما هو مكتوبٌ في
تذكرتي.. لكن بئسَ ما أفعل ! ولماذا أرمي بنفسي الي ذاك المكان الوحل , انا
لا أحتمل ازعاج المارة , والداخل والخارج ومن فقدَ عينه ونسي أن يغلق الباب
خلفه , ناهيك عن دخانِ التبغ المتصاعد من
أفواه المدخنين الواقفين بجوار الباب . ولا أستثني حديثي هؤلاء الثيران المتبجحين
ذاك الذي يخرُجُ دونَ ان يُغلقَ البابَ خلفه ! حسْبي أن أشمرَ عن ساعدي وألكمه
لكمةً فولاذيةً أُخرج بها حنقي المكتوم عن فعلته المستفزة . لا
أطيقُ – فعلاً – الجلوس في الأمام , أنبذه بشدة , وحظي التَعِسْ أنّي أجلس فيه
كثيراً .. حتي فاضَ بي , وذُقت ألواناً من التجارب كانت كفيلةً بأن ألعن تلك المنطقة
بأكملها ..
خَطَرَت هذه الأفكارُ .. وأنا مازلتُ في
طريقي لذلك الكرسي الفارغ ..
ليس مقعدي , لكني سأقنع الرجلَ الذي يفحص
التذاكر بأن جلوسي هنا لن يضر ..
وإن استوجبَ عليّ القيام , فلن امانع
مطلقاً
طرحت جسدي بقوة علي المقعد وأطلقت تنهيدة
تنم عن مدي انهاكي , فمنذ الصباح الباكر وأنا أجوب الشوارع كالقطط أنهي مستلزماتي الدراسية , استغرقت قرابة ال4
ساعات .. بعدها فكرت ملياً في امكانية السفر دون العودة الي البيت . وعلي الفور
طلبت سيارة أجرة وهرعت الي محطة القطار .
يا الهي .. لم أشعر بهذا الكم من الارهاق
من قبل , وكيف وانا مازلت في بداية الطريق ؟!
الطريق طويلاً والقطار ما لبث أن تحرك من
توه
الآن أتريث قليلاً .. نفساً عميقاً أكرره
3 مرات , ومن ثم أخرج روايتي العزيزة من الحقيبة وأفتحها , وأميل برأسي علي
النافذة المجاورة لأمارس هوايتي المعتادة : أتأمل الطريق من النافذة تارة , وأكمل
القراءة تارة أخري ..
وهكذا دواليك حتي نهاية الرحلة ..
رفعت جفوني الراية البيضاء .. وسلَّمت نفسها للنوم ..
علي صدري وضعت الكتاب دون ان اغلقه ..
يبدو أن القدر يحول بين نومي الهادئ
والآن ..
يكون الرحيل الي العالم الآخر
عالم اللا وعي
ـــــــــــــــــــــــــ
الشارع هائجٌ بأفراده .. لافتات مُعلقة تحمل
عبارات ثورية خالصة , مكبرات صوتية تصم الآذان , الآلاف من المواطنين يقفون عبر
الشارع الرئيسي في نفس الوقت الذي تضطرب فيه السيارات وتبدأ في اطلاق أبواقها
المزعجة لتكمل المشهد الهزلي , أصوات الهتافات تعلو ..
عروقه تظهر بشده .. وجهه شديد الاحمرار
.. صوته يكاد يصل لأبعد مدي .. محمول علي عنق احد المواطنين .. يشوح بيديه .. ذلك
الفتي يبدو مثيراً .. علي الرغم من حالته المزرية الا أنه يبدو أنيقاً بشاله
الملفوف حول عنقه , يعطيه مزاقاً ثورياً رائعاً ..
كم كنت اتمني أن أبقي لوهلة حتي آري
تداعيات الأمور .. لكن أنظر الي ساعتي
لم يتبق وقت حتي أصل الي المعهد ..
ومن ثَمّ فكرت في أن آخذها عدواً ..
وبالفعل !
في بضع دقائق كنت قد وصلت
فجأة أُعلنت حالة الطوارئ في المعهد ..
الضباط يخرجون الطلاب من المخرج الاحتياطي
تحدثت الي احدهم وأخبرني أن ذلك حمايةً
للمواطنين .. توقعاً لحدوث اشتباكات الآن مع الأمن ..
يا للهول ! .. بالفعل أرى جموع كبيرة من
العساكر تتحرك تجاه المتظاهرين ..
يبدو أن الأمور تزداد سوءاً فسوءا ..
ثمة أشخاص يتحدثون عن شغب سيحدث الآن ..
زخم يملأ الشارع ..
لكن لا شئ يحدث .. مجرد وقوف من جهة الأمن بجانب المتظاهرين حسبما
رأيت بعيني
أخبرت الضابط أنه لا وجود لشغب سيحدث
ولكنه وضح لي أن اغلاق المعهد اليوم حفاظاً علينا إن حدث شئ ما ..
أبديت أسفي أمامه ووضحت له انني لست من
أهل المدينة .. فتعجب !
غادرت ..
أنا الآن موقعي بجانب المتظاهرين ..
اتابع !
البعض يعلو بالهتاف .. ومجموعات متفرقة
تتناقش مع بعضها وقد تحتد المناقشات وقد يصل بعضها للسباب - لا يهم .. ما زال
امامنا الكثير من الوقت - .. شابٌ يقف علي عمود مرتفع يواجه المظاهرة , ويتشعلق عليه شبيها بالقرد , ينظر في عدسة
كاميرته بطريقة تنم عن براعته .. ثمة قناة تليفزيونة يبدو انها تتحدث مع الناس ,
والمراسل يقف بين نار مسئول قناته الذي طلب منه أن ينجز التقرير , وبين نار الشباب
الذي يسخر من المراسل ويتدخلون في اللقاء بصورة طفولية عبثية .. ولا يدري ماذا
يفعل المراسل ليتخلص منهم .. موقفٌ مضحك للغاية !
أغادر موقعي وأشرع في السير .. حتي أبتعد
قليلاً عن موقع الحدث .. ما زلت أري جموع المتظاهرين من بعيد !
قطاري سيغادر العاشرة .. و
الآن هي تدق لتعلن انها السابعة ..
مازال هناك متسعٌ من الوقت
أتوجه الي كافية قريب .. واطلب فنجاناً
من القهوة المظبوطة .
الآن بدأت عملية المسح , الدخول علي شبكة
الانترنت وذكر ما رأيت من احداث ..
أيضاً مُتابعة مستجدات الأمور في باقي
المحافظات .. قتلى ؟ اصابات ؟
هذا ما عهدناه الفترة الماضية ..
أشكال الدم وألوانه لم تغب كثيراً عن
أعيننا ..
الآن جائت القهوة تتراقص في فنجانها ..
كم أتلذذ برؤيتها , أرتشف بعضاً منها .. وأكمل ما بدأته ..
أتابع الأخبار علي شبكة التواصل
الاجتماعي ..
هناك من يتحدث عن شغب .. مظاهرات تتعرض
للقمع .. ياا للأسف !
لحظة من فضلك ! .. عُنفٌ وشغب في المنطقة التي أتواجد بها ؟
.. لكني لا أري شيئاً مما هو مكتوب .. " يا سيدي انني في موقع الحدث ولا
حقيقة لما تقوله " هذا ما رددت به
اجد صفحات كثيرة بدأت تنشر خبره الذي
أشعل الموقف واحدث ضجة
الخبر غير صحيح بالمرة .. وهذا ما أكدته
لهم ..
وكأنني أصطاد من مياه متعكرة .. لا جدوي
من ما أفعل
والعجيب أن الأقوال بدأت تتضار ب , هناك
من يقول ان الاخوان هم من بددأوا الضرب , والآخرون يتحدثون عن الثوار أنهم هم من
بدأوا بالضرب , وكل هذا أمامي وأنا أضحك واجلجل بالضحك .. لاهم باخوان ولا ثوار يا
سادة , ليس هناك شيئاً من الأساس ...
افعلوا ما بوسعكم فهذا ليس بجديد علينا
كمصريين ..
أغلقت جهازي ووقفت من توي , واعطيت للفتي
ثمن القهوة التي شربتها وغادرت .
الأمور ليست علي ما يرام ..
يبدو أن توقعات ضباط المعهد كانت في
محلها ..
أري تجمعات أخري من أهل المنطقة يحملون
أسلحة بيضاء ويتوجهون الي محيط المظاهرة
..
اللعنة
!
من المستحيل أن يكون ما قرأته علي النت سبباً في
هذا , يبدو علي تلك الوجوه أنها لا تفقه شئ في الكمبيوتر من الأساس , لكن كيف هذا
يحدث ؟ أسأل عابر سبيل فيقول لي أن بعضاً من المتظاهرين قد ضرب شاباً من أبنائهم
لاعتقادهم انهم ثوار ! انها مؤامرة اذن .. هؤلاء الطائشين يحسبون أن المتظاهرين
اخوان وهم ليسوا باخوان , ويتحدثون عن انهم يقتلون وينهبون , وسرقوا البلاد
لأنفسهم .
اقتربت الأهالي من المظاهرة وأظهروا
أسلحتهم , والشباب عندما رأوا الأهالي يقتربون بدأوا بالهتاف " يسقط يسقط حكم المرشد " ..
ويقولون " لا للاخوان " . ما هذا المشهد الهزلي ؟ , كلاهما يحسبون الآخر
انه اخوان ولا وجود للاخوان من الأساس , رائحة الدم يبدو أنها ستكون البطل , ألا
يوجد أحد من المسئولين ينقذ الموقف ويحل تلك الأزمة ؟ وماذا عن الأمن .. في الآونة
الأخيرة أصبح الأمن لا يتدخل في مثل هذه الأمور , ويقف كالمتفرج , وهذا ما حدث
بالفعل .. لم يتدخل احد منهم لأنهم من يلبسون التهمة في النهاية , ويقومون بعزل
مدير الأمن .. الخ !
اذن لا حل .. الصراع بدأ يحتدم .. أسلحة
بيضاء .. طوب .. شوم .. ضرب .. اصابات .. شباب محمول علي الأكتاف .. أبواق سيارات
الاسعاف .. هرج ومرج .. محلات تغلق أبوابها .. فلاش الكاميرات يبرق في الظلام ..
ابتعد عن الحدث خوفاً علي اصابتي ..
أجري .. أجري ..
أنظر ورائي لأجد طوبة تصطدم بوجهي ..
أصرررخ .. اااه
ـــــــــــــــــــــــ
أيقظني رجل كبير يجلس بجانبي في القطار ,
وراي علي وجهي هلعُ وخوف , ما هذا الكابوس ؟ يبدو أنني كنت أحلم , هدّأ من روعي وقال لي
استعذ بالله يا ولدي من الشيطان الرجيم , فعلت ما قال لي , وأعطاني زجاجة مياة لأشرب .. تذكرت ما رأيت في الحلم
" ليس حلماً بل حقيقة .. أزمة عميقة .. بين أبناء دولة عريقة .. كانوا يخشوا أن يُذكروا في التاريخ علي أنهم شعبٌ يخشي الكلام .. كسروا حاجز الصمت .. تحدثوا وتكلموا .. أحدثوا ضجة .. تكلموا وثرثروا .. أصدروا ضوضاء تصم الآذان .. "
أحمد الله علي أنه كان كابوساً , فلو أصابني شئ لكانت
الطامة الكبري ..
بالاخص أنني لا أتمني ان أموت في مشهد
كهذا يراه البعض علي انه موقف بطولي وهو ليس بذلك ..
مازال الرواية ملقاة علي صدري .. أكمل
القراءة ..
هاتفي يرن فجأة .. انها أمي !
أهلاً أمي .. بالفعل قاربت علي الوصول .. ماذا ؟ هناك ضربٌ في محيط المحطة ؟ بين
من ومن ؟ اهاا لا تعلمي اذن .. لعله خير .. لا تقلقي لن أقترب .. حاضر .. سأهتم
لحالي .. وداعاً
ـــــــــــــــــــــــــ